ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ثلاثة أقوال:
القول: بأنه لا يراه إلا المؤمنون ومن أقوى الأدلة عَلَى ذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) [المطففين:15] وكل ما سبق أن ذكرناه من الآيات والأحاديث يستدل به هَؤُلاءِ ويقولون: إن الكفار لا يدخلون في ذلك، أي: لا يدخلون في النعيم ولا فيما يتعلق بالنعيم، وهو أمر معلوم، إذاً فلا يرون ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أي موقف من مواقف يَوْمَ القِيَامَةِ.
أما الذين قالوا: إن الكفار يرونه فيقولون: نَحْنُ نقول: إنهم يرونه وقت الحساب فقط، ويستدلون بعموم ما جَاءَ في الأحاديث، منها: حديث أبي سعيد الخدري وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي أوله {أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر} ... الخ.
وحديث جرير وأبي سعيد {كنا جلوساً عند رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار إِلَى القمر وقال لهم ذلك، الحديث بطوله وفيه يقول الله عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: من كَانَ يعبد شيئاً فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنَّصَارَى فيمثل لهم شيطان عزيز وشيطان المسيح .....} الخ كما جَاءَ في الحديث، فيقولون: إن هذه الرؤية تحصل لأهل المحشر جميعاً والحديث فيها عام.
وأيضاً في حديث أبي رزين العقيلي قَالَ: {يا رَسُول الله: كيف يرى الخلائق ربهم وهو واحد؟ فَقَالَ ألا ترى أنهم جميعاً ينظرون إِلَى القمر وهو واحد قَالَ: بلي} فيستدلون بنفس الأحاديث في الرؤية لكن بعمومها، وأنها تدل عَلَى أنه لا فرق بين المؤمنين وبين الكفار في الرؤية التي قبل الحساب.
وفصلت فرقة ثالثة وقالت: إن نفس هذه الأحاديث جَاءَ في بعضها ما يفصل وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يأتي الخلائق في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيسألهم ويمتحنهم، ثُمَّ ينفض الكفار، وتذهب كل فرقة أو طائفة من الكفار مع طاغوتها الذي كانت تعبده، فتبقى هذا الأمة ومعها منافقوها، فيتجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا رأوه خروا سجداً، والمؤمنون يسجدون والمنافقون تكون ظهورهم كالخشبة فلا يسجدون، فهذا دليل عَلَى أن المنافقين يرون الله وأن الكفار لا يرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

والكلام كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وكما ذكر المُصنِّف هنا أن الأمر فيه هين -ولله الحمد- وذلك بأن يقال أهل السنة جميعاً: متفقون عَلَى أن رؤية الإنعام والتكريم والتلذذ لا تكون إلا للمؤمنين في الجنة هذا أمر معلوم وقطعي متفق عليه.
فبقي إذاً مسألة الرؤية أثناء الحساب وأثناء العرض، إن وقعت للكفار فليست تكريماً ولا تنعماً، وإنما هي إقامة للحجة، وإن لم تقع لهم، فهي أيضاً من ضمن العقوبات، هذا ما يجعلنا نخرج من الخلاف، حتى أن شَيْخ الإِسْلامِ في آخر هذه الرسالة قَالَ: إن الوقت لا يتسع للترجيح فيها، ولكن ليست بذات الأهمية التي لا بد أن نرجح فيها، فنحن يكفينا هذا، وهو أن نعلم: أنه إن ثبتت الرؤية للكفار في حال الحساب وما قبله، فهي ليست رؤية التنعم والتلذذ والإكرام، وإنما هي رؤية لإقامة الحجة وللمحاسبة وللعقوبة.
وأما التي بالإجماع ولا ينالها الكفار ولا المنافقون إنما هي للمؤمنين، فهذه الرؤية التي هي للنعيم، وهي رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، هذه الرؤية التي تُنَضِّرُ الوجوه، وهذه هي الزيادة التي يعطيها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الجنة، ويحسن بها إليهم فوق إحسانه إليهم بإدخالهم الجنة، هذا ما يقتضيه المقام هنا.